أعود لأكتب عن هموم مجال عملي .. بعد ( زوبعة الفنجان ) التي أثارها سياسيونا المبجلين ، و التي جعلتني أتساءل .. هل من الممكن أن يطرأ أي تغيير على الممارسة السياسية في بلدنا ؟ متى تنتهي المراهقة السياسية التي يعيشها البعض ؟
منذ بدأت سنوات الدراسة في كلية الطب تمضي ..بدأت استيعاب ما اقترفت يداي بحق نفسي و مستقبلي .. فلقد دخلت كلية الطب لأني من متفوقي الثانوية العامة و بناءا على رغبة الأهل . دون أدنى استيعاب لحقيقة الوضع و المشقة التي يعانيها دارس الطب و ممارسه على حد سواء. و تدريجيا بدأت الحقائق تتجلى ..خصوصا مع سنوات التدريب في المستشفى ، و احتكاكنا بالأطباء و تعرفنا على المستقبل الذي ينتظرنا . لعل أبسط دليل على حجم المصاعب هو نظام الخفارات لمدة 36 ساعة كل أربعة أيام . نعم .. على الطبيب أن يعمل في يوم خفارته من السابعة صباحا حتى نهاية الدوام الرسمي لليوم التالي ! فلك أن تتخيل - عزيزي القارئ كيف يكون منظرنا بعد انتهاء الخفارة ، و هذا يتكرر كل أربعة أيام . أذكرأني حاولت كتابة قصيدة في الموضوع لم أكملها أبدا .. يقول مطلعها :
إذا رأيت الأطباء سكارى ..
فاعلم أن عندهم خفارة..
ليت شعري أي خفارة ..
و إضافة لذلك .. فإن المخاطر التي نتعرض لها أثناء العمل كثيرة ، منها:
1- الإصابة بالأمراض المعدية .
2-التعرض للغازات و الإشعاعات.
3-الضغط النفسي و المواقف العصيبة.
4-الاعتداء اللفظي و الجسدي.
كل ذلك يجعل مهنة الطب من المهام الشاقة على الإطلاق . فإذا أضفنا لذلك تخلف نظام العمل عندنا .. فإن الصورة تكتمل .. مجالنا محبط يحث على اليأس و التقاعس .و لعل هذا ما يجعل الكثير من الناس يأخذون انطباعا سيئا عن الأطباء ..فالطبيب لا يقابل الناس بالشكل اللازم و لا يتصرف بالشكل الملائم لأنه ببساطة لا يعمل في المكان اللازم و البيئة الملائمة لذلك . لست أحاول تبرير تصرفات بعض الأطباء .. لكنها مجرد محاولة لبيان حجم المصاعب التي نواجهها . و نحن في النهاية بشر .. لسنا ملائكة و لا معصومين , حتى نتحمل كل هذه الضغوط دون أن يتأثر مزاجنا أو حتى تفكيرنا العلمي و قراراتنا المهنية .
إننا في وزارة الصحة نعمل في ظل نقص شديد على كافة المستويات .. يوجد قصور في التنظيم الإداري و الأجهزة و الأدوية و الطاقم الطبي و حتى عمال النقل و التنظيف . هذه حقيقة مفروغ منها. لكن ما أردت الإشارة إليه .. هو أنه رغم كل ذلك .. فإن هناك الكثير من النماذج المشرفة التي تقهر الصعاب و تمارس عملها على أكمل وجه .. لذلك اخترت عنوان هذه المقالة .. أطباء و نتحدى .. نعم نتحدى كل هذه المعوقات لنعمل ..نتحدى النقص و التخلف لنصل بمرضانا لبر الأمان .
تخيل أنك تطلب تحليلا لنسبة الهيموجلوبين في دم أحد المرضى الذي يخضع لجراحة عاجلة للسيطرة على نزيف شديد في الساق إثر حادث سيارة .. ترسل العينة في الحادية عشرة صباحا و لا تصلك النتيجة حتى الرابعة عصرا ، رغم أن الجهاز ينجز التحليل في عشر دقائق على الأكثر !و الأدهى أن تطلب أكياسا من الدم لنفس المريض ، فتحتاج إلى ساعتين على الأقل لتحصل عليها رغم أن إعدادها يتم في نصف ساعة ! ماذا نفعل و ماذا نقول ؟
تحية لكل طبيب يعمل بضمير من أجل مريضه ..يعطي من صحته و جهده ليبذل ما يستطيع نحو من ائتمنه على جسده و حياته .
و دمتم
سيدة التنبيب